فصل: (سورة الحج: الآيات 39- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} نزلت في النضر بن الحرث.
{وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} فأنجز ذلك يوم بدر.
{وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَا تَعُدُّونَ} بالياء مكي كوفي غير عاصم، غيرهم: بالتاء.
وقال ابن عباس: هي من الأيام التي خلق الله سبحانه فيها السماوات والأرض.
مجاهد وعكرمة: من أيام الآخرة.
ابن زيد: في قوله: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَا تَعُدُّونَ} قال: هذه أيام الآخرة. وفي قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] قال: هو يوم القيامة.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: وإنّ يوما عند ربّك من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدّة كألف سنة ممّا تعدون فكيف تستعجلوه؟ وهذا كما يقال: أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار.
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإلي المصير قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا} أي عملوا في إبطال آياتنا {مُعَاجِزِينَ} أي مغالبين مشاقّين قال ابن عباس، الأخفش: متأنّفين، قتادة: ظنّوا أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: معجّزين بالتشديد أي مثبّطين الناس عن الإيمان، ومثله في سورة سبأ.
{أولئك أَصْحَابُ الجحيم وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى}.
قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين: لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فأحبّ يومئذ ألاّ يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} [النجم: 19- 20] ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاّ سجد إلاّ الوليد بن المغيرة وأبو أُحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولَكِن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها محمد نصيبًا فنحن معه، فلمّا أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزنًا شديدًا وخاف من الله خوفًا كبيرًا فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبُّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، فغيّر ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله عليه السلام قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم.
{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عيانًا وشفاهًا {وَلاَ نَبِيٍّ} وهو الذي تكون نبوّته إلهامًا أو منامًا {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي أحبَّ شيئًا واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به.
{أَلْقَى الشيطان في أمنيته} أي مراده ووجد إليه سبيلًا، وقال أكثر المفسرين: يعني بقوله: تمنى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه {ألقى الشيطان في أمنيته} أي قراءته، وتلاوته، نظيره قوله سبحانه: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] يعني قراءة يقرأ عليهم.
وقال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ** وآخره لاقى حمام المقادر

وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول: ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان.
وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أنَّ الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضىّ لقوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي يبطله ويذهبه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} فيثبتها {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
فإن قيل: فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم فعنه جوابان: أحدهما: أنّه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبّهه الله سبحانه ويعصمه.
والثاني: أنَّ ذلك إنّما قاله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء قراءته وأوهم أنّه من القرآن وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتلوه، قال الله سبحانه: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيشكّون في ذلك.
{والقاسية قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر الله {وَإِنَّ الظالمين} الكافرين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم} من المؤمنين {أَنَّهُ} يعني أنّ الذي أحكم الله سبحانه من آيات القران {الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي ممّا ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ابن جريج: من القرآن، غيره: من الدين وهو الصراط المستقيم.
{حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال عكرمة والضحّاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة.
وقال الآخرون: هو يوم بدر وهو الصواب لأنّ الساعة هي القيامة، ولا وجه لأنْ يقال: حتى تأتيهم القيامة وإنّما سمّي يوم بدر عقيمًا لأنّهم لم يُنظَروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج، غيره: لأنّه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وقيل: لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
{الملك يَوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة {للَّهِ} وحده من غير منازع، ولا مدّع، والملك هو اتّساع المقدور لمن له تدبير الأمور، والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأمور كلّها، وكلّ ملك سواه فهو مملّك بحكمه وإذنه.
{يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ثم بيّن حكمه فقال عزَّ من قائل: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله سبحانه وطلب رضاه {ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ} وهم كذلك {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} في الجنة {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} وقيل: هو قوله سبحانه: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
روى ابن وهب عن عبد الرَّحْمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال: كان فضالة بن دوس أميرًا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما قتيل والآخر متوفّى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال: أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضلّونه على أخيه المتوفّى فوالذي نفسي بيده ما أُبالي من أىّ حفرتها بعثت، اقرؤوا قول الله سبحانه: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين}.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة الحج: آية 38]:

{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}.
خص المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} وقال: {وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون اللّه والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم اللّه ويغمطونها. ومن قرأ {يُدافِعُ} فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه، لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.

.[سورة الحج: الآيات 39- 41]:

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور (41)}.
{أُذِنَ} و{يُقاتَلُونَ} قرئا على لفظ المبنى للفاعل والمفعول جميعا: والمعنى: أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة {يقاتلون} عليه {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أى بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. والأخبار بكونه قادرا على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة، وما مرّ من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضا أَنْ يقولوا في محل الجرّ على الإبدال من {حَقٍّ} أى بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ}.
دفع اللّه بعض الناس ببعض: إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين. وقرئ: {دفاع}. {ولهدمت} بالتخفيف. وسميت الَكِنيسة صلاة لأنه يصلى فيها. وقيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانية: صلوثا {مَنْ يَنْصُرُهُ} أى ينصر دينه وأولياءه: هو إخبار من اللّه عز وجل بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضي الله عنه: هذا واللّه ثناء قبل بلاء. يريد: أنّ اللّه قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا.
وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين، لأنّ اللّه لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل {الَّذِينَ} منصوب بدل من قوله من ينصره. والظاهر أنه مجرور، تابع للذين أخرجوا {وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور} أى مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.

.[سورة الحج: الآيات 42- 44]:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)}.
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له: لست بأوحدى في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة. فإن قلت: لم قيل {وَكُذِّبَ مُوسى} ولم يقل: وقوم موسى؟ قلت: لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره.
النكير: بمعنى الإنكار والتغيير، حيث أبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا.

.[سورة الحج: آية 45]:

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلَكِناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}.
كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو عرش والخاوي: الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل وقوله: {عَلى عُرُوشِها} لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أى خرّت سقوفها على الأرض، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها أى قائمة مطلة على عروشها، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب أعنى {وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ} قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على {أهلَكِناها} وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن: {معطلة} من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء، إلا أنها عطلت، أى: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. والمشيد: المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلَكِنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وفي هذا دليل على أنّ {عَلى عُرُوشِها} بمعنى مع أوجه. روى أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم اللّه من العذاب، وهي بحضر موت. وإنما سميت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل اللّه إليهم حنظلة ابن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم اللّه وعطل بئرهم وخرّب قصورهم.

.[سورة الحج: آية 46]:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}.
يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر، ليروا مصارع من أهلكهم اللّه بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولَكِن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ} بالياء، أى: يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحى {فَإِنَّها} الضمير ضمير الشأن والقصة، يجيء مذكرا ومؤنثا وفي قراءة ابن مسعود: {فإنه} ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره {الْأَبْصارُ} وفي {تعمى} ضمير راجع إليه. والمعنى: أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتدّ بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قلت: أى فائدة في ذكر الصدور؟
قلت: الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولَكِنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا منى، ولَكِن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.